السبت، 17 يناير 2009

باب المعرفة بالله .... للإمام القشيري رضي الله عنه

باب المعرفة بالله *..*..* للإمام القشيري رضي الله عنه.

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على سيدنا محمد صلاة أهل السماوات والأرضين عليه واجر يا رب لطفك الخفي في أموري.
باب المعرفة بالله
للإمام أبي القاسم عبد الكريم بن هوزان القشيري المتوفي سنة 465 هـ رضي الله عنه وأرضاه ورحمه برحمته الواسعة.
قال الله تعالى:"وما قدروا الله حق قدره" (سورة الأنعام: 91)

جاء في التفسير: وما عرفوا الله حق معرفته.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله العدل، قال: حدثنا محمد بن القاسم العتكي، قال: حدثني محمد بن أشرس، قال: حدثنا سليمان بن عيسى الشجري عن عبا بن كثير، عن حنظلة بن أبي سفيان، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن دعامة البيت أساسهُ، ودعامة الدين المعرفة بالله تعالى، واليقينُ والعقل القامع فقلت: بأبي أنت وأمي ما العقل القامع؟ قال الكف عن معاصي الله، والحرص على طاعة الله". (أخرجه الإمام الديلمي عن السيدة عائشة رضي الله عنها)
قال الأستاذ: المعرفة على لسان العلماء هو: العلم؛ فكل علم معرفة؛

وكل معرفة علم؛ وكل عالم بالله عارف؛ وكل عارف عالم وعند هؤلاء القوم المعرفة: صفة من عرف الحق سبحانه بأسمائه وصفاته؛ ثم صدق الله تعالى في معاملاته، ثم تنقى عن أخلاقه الرديئة وأفاقه؛ ثم طال بالباب وقوفه ودام بالقلب اعتكافه فحظي من الله تعالى بجميل إقباله وصدق الله في جميع أحواله؛ وانقطع عنه هواجس نفسه؛ ولم يصغ بقلبه إلى خاطر يدعوه إلى غيره؛ فإذا صار من الخلق أجنبياً ومن آفات نفسه بريا؛

ومن المساكنات والملاحظات نقياً؛ ودام في السر مع الله تعالى مناجاته، وحق في كل لحظة إليه رجوعه وصار محدثا من قبل الحق سبحانه بتعريف أسراره فيما يجريه من تصاريف أقداره يسمى عند ذلك عارفاً وتسمى حالته معرفة.
وبالجملة فبمقدار أجنبيته عن نفسه تحصل معرفته بربه.
وقد تكلم المشايخ في المعرفة، فكل نطق بما وقع له؛ وأشار إلى ما وجده في وقته.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله يقول: من أمارات المعرفة بالله حصول الهيبة من الله، فمن ازدادت معرفته ازدادت هيبته.
وسمعته يقول: المعرفة توجب السكينة في القلب كما أن العلم يوجب السكون فمن ازدادت معرفته ازدادت سكينته.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أحمد بن محمد بن زيد يقول: سمعت الشبلي يقول: ليس لعارف علاقة ولا لمحب شكوى،

ولا لعبد دعوى، ولا لخائف قرار، ولا لأحد من الله فرار.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن محمد بن عبد الوهاب يقول: سمعت الشبلي يقول، وقد سئل عن المعرفة، فقال: أولها الله تعالى، وآخرها ما لا نهاية له.
وسمعته يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبا العباس الدينوري يقول: قال أبو حفص: مذ عرفت الله تعالى ما دخل قلبي حق ولا باطل.

قال الأستاذ أبو القاسم: وهذا أ أبو حفص فيه طرف من الإشكال، وأجل ما يحتمله: أن عند القوم المعرفة توجب غيبة العبد عن نفس، لإستيلاء ذكر الحق؛ سبحانه، عليه، فلا يشهد غير الله، عزّ وجلَّ، ولا يرجع إلى غيره، فكما أن العقل يرجع إلى قلبه وتفكره وتذكره فيما يسنح له من أمر، أو يستقبله من حال؛ فالعارف رجوعه إلى ربه. فإذا لم يكن مشتغلاً إلا بربه لم يكن راجعاً إلى قلبه. وكيف يدخل المعنى قلب من لا قلب له. وفرق بين من عاش بقلبه وبين من عاش بربه عز وجل.
وسئل أبو يزيد عن المعرفة، فقال:
"
إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة". (سورة النمل: 34)
قال الأستاذ: هذا معنى ما أشار إليه أبو حفص.
وقال أبو يزيد: للخلق أحوال، ولا حال للعارف؛ لأنه محيت رسومه. فنيت هويته بهوية غيره، وغيبت آثاره بآثار غيره.
وقال الواسطي: لا تصح المعرفة وفي العبد استغناء بالله وافتقار إليه.
قال الأستاذ: أراد الواسطي بهذا: أن الافتقار والاستغناء من أمارات صحو العبد وبقاء رسومه؛ لأنهما من صفاته، والعارف محو في معروفه، فكيف يصح له ذلك، وهو لاستهلاكه في وجوده، أو لاستغراقه في شهوده إن لم يبلغ الوجود مختطف عن إحساسه بكل وصف هو له.
ولهذا قال الواسطي أيضاً: من عرف الله تعالى انقطع، بل خرس وانقمع.
قال صلى الله عليه سلم: "لا أحصي ثناءً عليك" أخرجه الإمام مسلم وأبو داود والترميذي والنسائي وابن ماجه وفي الموطأ وأحمد ابن حنبل.
هذه صفات الذين بعد مرماهم، فأما من نزلوا عن هذا الحد فقد تكلموا في المعرفة وأكثروا.
أخبرنا محمد بن الحسين قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن سعيد الرازي قال: حدثنا عياش بن حمزة قال: سمعت أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أحمد بن عاصم الأنطاكي يقول: من كان بالله أعرف كان له أخوف.
وقال بعضهم: من عرف الله تعالى تبرم بالبقاء، وضاقت عليه الدنيا بسعتها.
وقيل: من عرف الله صفا له العيش، وطابت له الحياة، وهابه كل شيء، وذهب عنه خوفُ المخلوقين، وأنس بالله تعالى.
وقيل: من عرف الله ذهب عنه رغبة الأشياء، وكان بلا فصل ولا وصل.
وقيل: المعرفة توجب الحياء والتعظيم، كما أن التوحيد يوجب الرضا والتسليم.
وقال رويم: المعرفة للعارف مرآة إذا نظر فيها تجلى له مولاه.
وقال ذو النون المصري: ركضت أرواح الأنبياء في ميدان المعرفة فسبقت روحُ نبينا، صلى الله عليه وسلم، أرواحَ الأنبياء عليهم السلام إلى روضة الوصال.
وقال ذو النون المصري: معاشرة العارف كمعاشرة الله تعالى يحتملك ويحلم عنك، تخلقاً بأخلاق الله.
وشئل بن يزدانيار: متى يشهد العارف الحقَّ سبحانه؟ فقال: إذا بدا الشاهد وفنيت الشواهد وذهب الحواس واضمحل الإخلاص.
وقال الحسين بن منصور: إذا بلغ العبد إلى مقام المعرفة أوحى الله إليه بخواطره، وحرس سرَّه أن يسنح فيه غير خاطر الحق.
وقال علامة العارف أن يكون فارغاً من الدنيا والآخرة.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن أحمد بن سعيد يقول: سمعت محمد بن أحمد بن سهل يقول: سمعت سعيد بن عثمان يقول: سمعت ذا النون المصري يقول: أعرف الناس بالله تعالى أشدهم تحيراً فيه.
وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا عمر الأنطاكي يقول: قال رجل للجنيد: مِن أهل المعرفة أقوام يقولون إن ترك الحركات من باب البر والتقوى!! فقال الجنيد: إن هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال، وهو عندي عظيم، والذي يسرق ويزني أحسن حالاً من الذي يقول هذا؛ فإن العارفين بالله أخذوا الأعمال عن الله تعالى، وإلى الله رجعوا فيها، ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة.
وقيل لأبي يزيد: بماذا وجدت هذه المعرفة؟ فقال: ببطن جائع وبدن عار.
وقال أبو يعقوب النهرجوري: قلت لأبي يعقوب السوسي هل يتأسف العارف على شيء غير الله عز وجل؟ فقال: وهل يرى غيره فيتأسف عليه؟! قلت: فبأي عين ينظر إلى الأشياء؟ فقال: بعين الفناء والزوال.
وقال أبو يزيد: العارف طيار، والزاهد سيار.
وقيل: العارف تبكي عينه ويضحك قلبه.
وقال الجنيد: لا يكون العارف عارفاً حتى يكون كالأرض يطؤه البرُّ والفاجر، وكالسحاب بطل كل شيء، وكالمطر، يسقى ما يحب، وما لا يحب.
وقال يحيى بن معاذ: يخرج العارف من الدنيا ولا يقضي وطره من شيئين: بكاؤه على نفسه، وثناؤه على ربه، عز وجل.
وقال أبو يزيد: إنما نالوا المعرفة بتضييع ما لهم والوقوف مع ماله.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت يوسف بن علي يقول: لا يكون العارف عارفاً حقاً حتى لو أعطي مثل ملك سليمان عليه السلام لم يشغله عن الله طرفة عين.
وسمعته يقول: سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت ابن عطاء يقول: المعرفة على ثلاثة أركان: الهيبة، والحياء، والأنس.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت يوسف ابن الحسين يقول: قيل لذي النون المصري: بم عرفت ربك؟ قال: عرفت ربي بربي، ولولا ربي لما عرفت ربي.
وقيل: العالم يقتدي به، والعارف يهتدي به.
وقال الشبلي: العارف لا يكون لغيره لاحظاً، ولا بكلام غيره لا فظاً، ولا يرى لنفسه غير الله تعالى حافظاً.
وقيل: العارف أنس بذكر الله فأوحشه من خلقه، وافتقر إلى الله فأغناه عن خلقه، وذل له تعالى فأعزه في خلقه.
وقال أبو الطيب السامري: المعرفة طلوع الحق على الأسرار بمواصلة الأنوار.
وقيل: العارف فوق ما يقول، والعالم دون ما يقول.
وقال أبو سليمان الداراني: إن الله تعالى يفتح للعارف وهو على فراشه ما لا يفتح لغيره وهو قائم يصلي.
وقال الجنيد: العارف من نطق الحقُّ عن سره وهو ساكت.
وقال ذو النون: لكل شيء عقوبة، وعقوبة العارف انقطاعه عن ذكر الله تعالى.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سمعت الوجيهي يقول: سمعت أبا علي الرُّوذباري يقول: سمعت رويماً يقول: رياء العارفين أفضل من إخلاص المريدين.
وقال أبو بكر الوراق: سكوت العارف أنفع، وكلامه أشهى وأطيب.
وقال ذو النون: الزهاد ملوك الآخرة وهم فقراء العارفين.
وسئل الجنيد عن العارف، فقال: لون الماء لون إنائه (يعني أنه بحكم وقته).
وسئل أبو يزيد عن العارف، فقال: لا يرى في نومه غير الله، ولا في يقظته غير الله، ولا يوافق غيرالله ، ولا يطالع غير الله تعالى.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت عبد الله بن محمد الدمشقي يقول: سئل بعض المشايخ: بمَ عرفت الله تعالى؟ فقال: بلمعة لمعت بلسان مأخوذ عن التمييز المعهود، ولفظة جرت على لسان هالك مفقود يشير إلى وجد ظاهر ويخبر عن سر سائر هو هو بما أظهرهُ، وغيره بما اشكله ثم أنشد:

لك النطق لفظاً أو يبين عن النطق

نطقتُ بلا نطق هو النطـق إنـه

وألمعتَ لي برقاً فانضفت بالبـرق

تراءيت كي أخفى وقد كنتَ خافياً
وسمعته يقول: سمعت علي بن بندار الصيرفي يقول: سمعت الجريري يقول: سئل أبو تراب عن صفة العارف، قال: الذي لا يكدره شيء، ويصفو به كلُّ شيء.
وسمعته يقول: سمعت أبا عثمان المغربي يقول: العارف تضيء له أنوار العلم فيبصر به عجائب الغيب.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: العارف مستهلك في بحار التحقيق؛ كما قال قائلهم: المعرفة أمواج تغطّ. ترفع وتحط.
وسئل يحيى بن معاذ عن العارف، فقال: رجل كائن بائن، ومرة قال: كان فبان.
وقال ذو النون: علامة العارف ثلاثة: لا يطفىء نور معرفته نور ورعه، ولا يعتقد باطناً من العلم ينقض عليه ظاهراً من الحكم، ولا تحمله كثرة نعم الله عز وجل، عليه على هتك أستار محارم الله.
وقيل: ليس بعارف من وصف المعرفة عند أبناء الآخرة، فكيف عند أبناء الدنيا؟? وقال أبو سعيد الخراز: المعرفة تأتي من عين الجود وبذل المجهود.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت بن عبد الله يقول: سمعت جعفراً يقول: سئل الجنيد عن قول ذي النون المصري في صفة العارف.
كان ها هنا فذهب فقال الجنيد: العارف: لا يحصره حال عن حال، ولا يحجبه منزل عن التنقل في المنازل، فهو مع أهل كل مكان بمثل الذي هو فيه يجد مثل الذي يجدون، وينطق فيها بمعالمها لينتفعوا بها.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله الرازي يقول: سمعت محمد بن الفضل يقول: المعرفة حياة القلب مع الله تعالى.

وسمعته يقول: سمعت أحمد بن علي بن جعفر يقول: سمعت الكتاني يقول: سئل أبو سعيد الخراز: هل يصير العارف إلى حال يجفو عليه البكاء؟ فقال: نعم، إنما البكاء في أوقات سيرهم إلى الله تعالى، فإذا نزلوا إلى حقائق القرب وذاقوا طعم الوصول من بره زال عنهم ذلك.
والله أعلى وأعلم
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا كثيرا كثيرا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق