السبت، 17 يناير 2009

رسالة سمو القرآن نموذجا

دلالية اللغة في أنوار الحقيقة لسعيد النورسي

رسالة سمو القرآن نموذجا

أ. الشريف حبيلة

قسم اللغة العربية و آدابها- المركز الجامعي العربي التبسي- تبسة – الجزائر

كلام لابد منه:

حينما طلب مني الدكتور محي الدين صالح التعليق على كتاب بديع الزمان سعيد النورسي "أنوار الحقيقة في التصوف و السلوك" و كنت إلى غاية هذا الوقت لم أقرأ من كتبه كتابا واحدا، إلا ما كان من الدكتور سعيد رمضان البوطي في كتابه (من الفكر و القلب)1، عندما خص بديع الزمان بمقالتين، و لم أكترث كثيرا رغم إعجابي بهذا الرجل خاصة تلك الطاقة الروحية التي حدثنها عنها الكاتب، و تدور السنون لألتقي بالدكتور صالح بمصر و في مقر الرابطة العالمية للأدب الإسلامي بالقاهرة، حيث يقدم لي " أنوار الحقيقة" هدية ، ثم يطلب مني التعليق على ما جاء فيها في بضع أوراق لا تتجاوز العشر.

عدت و كلي عزم على أن أقرأ الرسائل خاصة وقد عرفت ما كان من تأثير لها على الناس في مختلف البقاع ، تسكن القلوب بمجرد مطالعتها، وهو السبب الذي دفعني أكثر إلى محاولة اكتشافها، و اكتشاف القوة التي جعلتها كذلك. نعم لقد اكتسبت ذلك من قوة صاحبها القدوة والنموذج من خلال الدلالات و المعاني التي تتضمنها، لكن هاجسا علميا يقول لي و أنا أقرأها أن سببا آخر يكمن خلف قوتها. لذا وضعت خطة لدراستها، ورأيت أن تناول الكتاب جملة يحتاج إلى وقت وجهد أكبر وعمل يتجاوز المقال، فكان أن اخترت رسالة واحدة من الكتاب لتكون موضوع الدرس، و لم أجد أفضل وأنسب من الرسالة التي كانت مفتاح هذه المجموعة، وقد عنونها بديع الزمان ب"سمو القرآن" .

و حتى لا أقع في التقريرية و التفسيرية المباشرة التي تؤدي إلى الشرح البسيط و الساذج، انتخبت منهجا نقديا اعتدناه في دراسة النص الأدبي و هو الدراسة النصية و الدلالية لفعل الكتابة في مستواها اللغوي2 ، لعل السبب الآخر لاختيار منهج كهذا هو المستوى اللغوي الرفيع الذي كتبت به الرسائل, حتى و إن كانت في غير لغتها الأم، فإن ترجمتها تنبئ عن رفعة لغتها.

و لن أتعرض بالتعريف للمنهج أو الرسائل، إنما يعرض الأول نفسه كأداة دراسة من خلال مراحل البحث، أما الرسائل فلا تحتاج لمن يعرف بها.

نص الرسالة: سمو القرآن

إذا أردت أن تفهم كيف يسمو القرآن على سائر الكلمات الإلهية و تعرف مدى تفوقه على جميع الكلام. فانظر و تأمل في هذين المثالين:

المثال الأول: أن للسلطان نوعين من المكالمة، و طرازان من الخطاب و الكلام:

الأول: مكالمة خاصة بوساطة هاتف خاص مع أحد رعاياه من العوام، في أمر جزئي يعود إلى حاجة خاصة به.

و الآخر: مكالمة باسم السلطنة العظمى، و بعنوان الخلافة الكبرى و بعزة الحاكمية العامة، بقصد نشر أوامره السلطانية في الآفاق، فهي مكالمة يجريها مع أحد مبعوثيه أو مع أحد كبار موظفيه.. فهي مكالمة بأمر عظيم يهم الجميع.

المثال الثاني: رجل يمسك مرآة تجاه الشمس، فالمرآة تلتقط ـ حسب سعتها ـ نورا و ضياء يحمل الألوان السبعة في الشمس.

فيكون الرجل ذا علاقة مع الشمس بنسبة تلك المرآة، و يمكنه أن يستفيد منها فيما إذا وجهها إلى غرفته المظلمة، أو مشتله الخاص الصغير المسقف، بيد أن استفادته من الضوء تنحصر بمقدار قابلية المرأة على ما تعكسه من نور الشمس و ليست بمقدار عظم الشمس.

بينما رجل يترك المرآة، و يجابه الشمس مباشرة، و يشاهد هيبتها و يدرك عظمتها، ثم يصعد على جبل عال جدا و ينظر إلى شعشعة سلطانها الواسع المهيب و يقابلها بالذات دون حجاب ثم يرجع و يفتح من بيته الصغير و من مشتله المسقف الخاص نوافذ واسعة نحو الشمس، واجدا سبلا إلى الشمس التي هي في أعالي السماء ثم يجري حوارا مع الضياء الدائم للشمس الحقيقية. فيناجي الشمس بلسان حاله و يحاورها بهذه المحاورة المكللة بالشكر و الامتنان فيقول:(إيه يا شمس ! يا من تربعت على عرش جمال العالم! يا لطيفة السماء و زهراءها ! يا من أضفيت على الأرض بهجة و نورا، و منحت الأزهار ابتسامة و سرورا، فلقد منحت الدفء و النور معا لبيتي و مشتلي الصغير، كما وهبت للعالم أجمع الدفء و النور).

بينما صاحب المرآة السابق لا يستطيع أن يناجي الشمس و يحاورها بهذا الأسلوب، إذ أن آثار ضوء الشمس محددة بحدود المرآة و قيودها، و هي محصورة بحسب قابلية تلك المرآة و استيعابها للضوء.

و بعد فانظر من خلال منظار هذين المثالين إلى القرآن الكريم لتشاهد أعجازه، وتدرك قدسيته و سموه.

أجل إن القرآن الكريم يقول:{و لو ما في الأرض من شجر أقلام و البحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله، إن الله عزيز حكيم} لقمان27 و هكذا فإن منح القرآن أعلى مقام من بين الكلمات جميعا، تلك الكلمات التي لا تحدها حدود، مرده أن القرآن قد نزل من الاسم الأعظم و من أعظم مرتبة من مراتب كل اسم من الأسماء الحسنى، فهو كلام الله، بوصفه رب العالمين، و هو أمره بوصفه إله الموجودات، و هو خطابه بوصفه خالق السموات و الأرض، و هو مكالمة سامية بصفة الربوبية المطلقة، و هو خطابه الأزلي باسم السلطنة الإلهية العظمى. و هو سجل الالتفات و التكريم الرحماني نابع من رحمته الواسعة المحيطة بكل شيء. و هو مجموعة رسائل ربانية تبين عظمة الألوهية، إذ في بدايات بعضها رموز و شفرات. و هو الكتاب المقدس الذي ينثر الحكمة.

و لأجل هذه الأسرار أطلق على القرآن الكريم ما هو أهله و لائق به اسم(كلام الله).(ص7)

أما سائر الكلمات الإلهية: فإن قسما منها كلام نابع باعتبار خاص، و بعنوان جزئي، و بتجل جزئي لاسم خصوصي، و ربوبية خاصة، و سلطان خاص ، و رحمة خصوصية. فدرجات هذه الكلمات مختلفة متفاوتة من حيث الخاص و الكلي، فأكثر الإلهامات من هذا القسم إلا أن درجاتها متفاوتة جدا.

فمثلا: إن أبسطها و أكثرها جزئية هي إلهام الحيوانات ، ثم إلهام عوام الناس ، ثم إلهام عوام الملائكة، ثم إلهام الأولياء، ثم إلهام كبار الملائكة.

و من هذا السر نرى أن وليا يقول:"حدثني قلبي عن ربي" أي: بهاتف قلبه. و من دون وساطة ملك، فهو لا يقول: حدثني رب العالمين. أو نراه يقول: إن قلبي عرش و مرآة عاكسة لتجليات ربي. و لا يقول: عرش رب العالمين، لأنه يمكن أن ينال حظا من الخطاب الرباني وفق استعداداته و حسب درجة قابليته و بنسبة رفع ما يقارب سبعين ألف حجاب.

نعم إنه بمقدار علو كلام السلطان الصادر من حيث السلطنة و سموه على مكالمته الجزئية مع أحد رعاياه من العوام، و بمقدار ما يفوق الاستفادة من فيض تجلي الضوء من الشمس التي هي في السماء على استفادة فيضها من المرآة، يمكن فهم سمو القرآن الكريم على جميع الكلام الإلهي و الكتب السماوية.

فالكتب المقدسة و الصحف السماوية بالدرجة الثانية بعد القرآن الكريم في درجة العلو و السمو. كل له درجته و تفوقه، كل له حظه من ذلك السر للتفوق، فلو اجتمع جميع الكلام الطيب الجميل للإنس و الجن-الذي لم يترشح عن القرآن الكريم- فإنه لا يمكن أن يكون نظيرا قط للقرآن الكريم و لا يمكن أن يدنو إلى أن يكون مثله.

و إذا كنت تريد أن تفهم شيئا من القرآن الكريم قد نزل من الاسم الأعظم و من المرتبة العظمى لكل اسم من الأسماء الحسنى فتدبر في( آية الكرسي) و كذا الآيات الكريمة التالية و تأمل في معانيها الشاملة العامة السامية:

{و عنده مفاتيح الغيب}الأنعام 59

{قل اللهم مالك الملك} آل عمران26

{يغشي الليل النهار حثيثا و الشمس و القمر و النجوم مسخرات بأمره}الأعراف54

{يا أرض بلعي ماءك و يا سماء أقلعي}هود44

{تسبح له السموات السبع و الأرض و من فيهن}الاسراء44

{ما خلقكم و لا بعثكم إلا كنفس واحدة} لقمان28

{إنا عرضنا الأمانة على السموات و الأرض و الجبال..}الأحزاب72

{يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب...}الأنبياء104

{و ما قدروا الله حق قدره و الأرض جميعا قبضته يوم القيامة}الزمر67

{لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته..}الحشر21

و أمثالها من الآيات الجليلة ، ثم دقق النظر في السور المبتدئة ب{الحمد لله} و {تسبح...} لترى شعاع هذا السر العظيم ثم أنظر إلى السور المستهلة ب{الم} و {الر} و {حم} لتفهم أهمية القرآن لدى رب العالمين.

و إذا فهمت السر اللطيف لهذا الأساس الرابع، تستطيع أن تفهم: السر في أن أكثر الوحي النازل إلى الأنبياء إنما هو بوساطة مالك، أما الإلهام فبلا وساطة.

و تفهم السر في أن أعظم ولي من الأولياء لا يبلغ أي نبي كان من الأنبياء. و تفهم السر الكامن في عظمة القرآن و عزته القدسية و علو إعجازه. و تفهم سر لزوم المعراج و حكمة ضرورته، أي تفهم السر في رحلته صلى الله عليه و سلم إلى السموات العلا و إلى سدرة المنتهى حتى كان قاب قوسين أو أدنى و من ثم مناجاته معه سبحانه، مع أنه جل جلاله {أقرب إليه من حبل الوريد} ثم عودته بطرف العين إلى مكانه.

أجل! إن شق القمر كما أنه معجزة لإثبات الرسالة، أظهرت نبوته إلى الجن و الإنس. كذلك المعراج هو معجزة عبوديته صلى الله عليه و سلم أظهرت محبوبيته إلى الأرواح و الملائكة.

اللهم صل و سلم عليه و على آله، كما يليق برحمتك و برحمته،آمين.3

إطلالة:

بداية أخبر القارئ أن اختيار الرسالة الأولى المعنونة ب"سمو القرآن" يعود لكونها فاتحة المجموعة، ليس بمعنى البداية ، إنما لأنها جمعت معاني باقي الرسائل جميعا، و تضمنتها، حيث تنبني عليها و تتأسس كل الرسائل الباقية، بل تتوالد كدلالات توحي بها الرسالة الأولى. و لعل المستوى اللغوي هو الذي أعطى الرسائل القدرة على الاستحواذ على قلب و عقل القارئ.

لذا تكون البداية من هذه النقطة، فنظرة سريعة إلى الرسالة تبرز على سطح النص قدرة أسلوبية و دلالية واضحة، صحيح أن سعيد النورسي لم يكتب الرسائل على أنها إبداعا أدبيا، و مع ذلك توفرت فيها السمات الأدبية التي تخاطب كفاءة متلق ما على دراية بهذه السمات ، يتذوقها قبل أن يدرك دلالاتها، فالطريق إلى المتلقي يتم هنا عبر اللغة التي قد لا يعي القارئ العادي أدبيتها، لكنه يتأثر بها و تستحوذ عليه.

فالكاتب يتوجه مباشرة إلى المتلقي، تشير على ذلك الأفعال الموجه للمخاطب (أردت، تفهم، تعرف، أنظر، تأمل.....) . ليس هناك حاجز بين صوت النورسي و القارئ أو السامع/المتلقي، إذ يتحقق الخطاب عبر اللغة التي تشتغل على مستوى التركيب و على مستوى الدلالة، حيث يلجأ الكاتب إلى تكثيفها من خلال النص القرآني الذي يعطيها شحنة عقلية و عاطفية تؤكدها أكثر، حتى إذا وقعت في عقل وقلب المتلقي لا تتزعزع، و ذلك من أسباب قوة الرسالة في التأثير.

و يشكل الخطاب من جهة ابتهال متعبد يتقرب إلى الله، و في الوقت نفسه يتوجه إلى القارئ الذي يقف ليقرأ أو ليسمع، و كأنه أمام شخص يؤدي شعيرة الصلاة في خشوع، متقنة الأداء و الأسلوب ، فيغنم عبادة الله و انقياذ المتلقي المشاهد السامع ، الذي لا يجد إلا أن يكبر خلفه مصليا متقنا صلاته، و هكذا ما زال العدد يزيد و يزيد بفضل إتقان الأداء. و هو ما تفعله الرسالة في القارئ، و عندئذ تغدو عملية التخاطب مزدوجة، في مستواها اللغوي.

يعمد سعيد النورسي في مقاطع من الرسالة إلى توظيف صيغ الغائب ليحكي في مثالين عن قدرة التأثير التي يتميز بها الخطاب المباشر دون وساطة في مقابل الخطاب غير المباشر الذي لا يتحقق إلا بوساطة، و هنا تتجلى قدرة الكاتب على استحضار حاضره و ماضيه و مستقبله الذي يحيل إلى ذاتيته و ما تمتلئ به من إيمان تتحكم في الزمان و المكان، و تتجاوزهما لتصير مستقلة، فيحضر الكلام الذي يلي المثالين محتضنا خفقان القلب المدرك لحقيقة الوجود التي يستمدها من حقيقة القرآن، هنا فقط تتشابك لغة البشر/الكاتب مع لغة القرآن ، تسمو الأولى إلى الثانية و تستند إليها و منها تستمد قوة اليقين.

هذه اللغة هي التي توحد بين سعيد النورسي و أتباعه و غير أتباعه، فيعجز كل محاول التفريق بينهم. يمارس هذا التواصل بين الكاتب و القارئ صيرورة لا تنقطع، تحافظ عليها اللغة الموظفة المليئة بالمحبة و الرحمة و الشفقة و السمو تحت راية التوحيد.

تحديد مقاطع الرسالة:

تبدو الرسالة في ظاهرها خطابا واحدا، لكن بمجرد قراءتها بالتركيز على البناء اللغوي نكتشف أنها مكونة من ثلاثة مقاطع لغوية:

المقطع الأول: تشكله الوحدات الآتية:

1- إذا أردت أن تفهم كيف يسمو القرآن على سائر الكلمات الإلهية و تعرف مدى تفوقه على جميع الكلام. فانظر و تأمل في هذين المثالين.(ص 5)

2- و بعد فانظر من خلال منظار هذين المثالين إلى القرآن الكريم لتشاهد أعجازه، وتدرك قدسيته و سموه.(ص7)

3- و إذا كنت تريد أن تفهم شيئا من القرآن الكريم قد نزل من الاسم الأعظم و من المرتبة العظمى لكل اسم من الأسماء الحسنى فتدبر في( آية الكرسي) و كذا الآيات الكريمة التالية و تأمل في معانيها الشاملة العامة السامية:

{و عنده مفاتيح الغيب}الأنعام 59

{قل اللهم مالك الملك} آل عمران26

{يغشي الليل النهار حثيثا و الشمس و القمر و النجوم مسخرات بأمره}الأعراف54

{يا أرض بلعي ماءك و يا سماء أقلعي}هود44

{تسبح له السموات السبع و الأرض و من فيهن}الاسراء44

{ما خلقكم و لا بعثكم إلا كنفس واحدة} لقمان28

{إنا عرضنا الأمانة على السموات و الأرض و الجبال..}الأحزاب72

{يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب...}الأنبياء104

{وما قدروا الله حق قدره و الأرض جميعا قبضته يوم القيامة}الزمر67

{لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته..}الحشر21

و أمثالها من الآيات الجليلة ، ثم دقق النظر في السور المبتدئة ب{الحمد لله} و {تسبح...} لترى شعاع هذا السر العظيم ثم أنظر إلى السور المستهلة ب{الم} و {الر} و {حم} لتفهم أهمية القرآن لدى رب العالمين.

4- و إذا فهمت السر اللطيف لهذا الأساس الرابع، تستطيع أن تفهم: السر في أن أكثر الوحي النازل إلى الأنبياء إنما هو بوساطة مالك، أما الإلهام فبلا وساطة.(ص11)

5- و تفهم السر في أن أعظم ولي من الأولياء لا يبلغ أي نبي كان من الأنبياء. و تفهم السر الكامن في عظمة القرآن و عزته القدسية و علو إعجازه. و تفهم سر لزوم المعراج و حكمة ضرورته، أي تفهم السر في رحلته صلى الله عليه و سلم إلى السموات العلا و إلى سدرة المنتهى حتى كان قاب قوسين أو أدنى و من ثم مناجاته معه سبحانه، مع أنه جل جلاله {أقرب إليه من حبل الوريد} ثم عودته بطرف العين إلى مكانه.(ص11)

المقطع الثاني: تشكله الوحدات الآتية:

1- المثال الأول: أن للسلطان نوعين من المكالمة، و طرازان من الخطاب و الكلام:

الأول: مكالمة خاصة بوساطة هاتف خاص مع أحد رعاياه من العوام، في أمر جزئي يعود إلى حاجة خاصة به.

و الآخر: مكالمة باسم السلطنة العظمى، و بعنوان الخلافة الكبرى و بعزة الحاكمية العامة، بقصد نشر أوامره السلطانية في الآفاق، فهي مكالمة يجريها مع أحد مبعوثيه أو مع أحد كبار موظفيه.. فهي مكالمة بأمر عظيم يهم الجميع.(ص5)

2- المثال الثاني: رجل يمسك مرآة تجاه الشمس، فالمرآة تلتقط ـ حسب سعتها ـ نورا و ضياء يحمل الألوان السبعة في الشمس. فيكون الرجل ذا علاقة مع الشمس بنسبة تلك المرآة، و يمكنه أن يستفيد منها فيما إذا وجهها إلى غرفته المظلمة، أو مشتله الخاص الصغير المسقف، بيد أن استفادته من الضوء تنحصر بمقدار قابلية المرأة على ما تعكسه من نور الشمس و ليست بمقدار عظم الشمس. (ص6)

بينما رجل يترك المرآة، و يجابه الشمس مباشرة، و يشاهد هيبتها و يدرك عظمتها، ثم يصعد على جبل عال جدا و ينظر إلى شعشعة سلطانها الواسع المهيب و يقابلها بالذات دون حجاب ثم يرجع و يفتح من بيته الصغير و من مشتله المسقف الخاص نوافذ واسعة نحو الشمس، واجدا سبلا إلى الشمس التي هي في أعالي السماء ثم يجري حوارا مع الضياء الدائم للشمس الحقيقية. فيناجي الشمس بلسان حاله و يحاورها بهذه المحاورة المكللة بالشكر و الامتنان فيقول:(إيه يا شمس ! يا من تربعت على عرش جمال العالم! يا لطيفة السماء و زهراءها ! يا من أضفيت على الأرض بهجة و نورا، و منحت الأزهار ابتسامة و سرورا، فلقد منحت الدفء و النور معا لبيتي و مشتلي الصغير، كما وهبت للعالم أجمع الدفء و النور).(ص6)

بينما صاحب المرآة السابق لا يستطيع أن يناجي الشمس و يحاورها بهذا الأسلوب، إذ أن آثار ضوء الشمس محددة بحدود المرآة و قيودها، و هي محصورة بحسب قابلية تلك المرآة و استيعابها للضوء.(ص)

3- فمثلا: إن أبسطها و أكثرها جزئية هي إلهام الحيوانات ، ثم إلهام عوام الناس ، ثم إلهام عوام الملائكة، ثم إلهام الأولياء، ثم إلهام كبار الملائكة.

و من هذا السر نرى أن وليا يقول:"حدثني قلبي عن ربي" أي: بهاتف قلبه. و من دون وساطة ملك، فهو لا يقول: حدثني رب العالمين. أو نراه يقول: إن قلبي عرش و مرآة عاكسة لتجليات ربي. و لا يقول: عرش رب العالمين، لأنه يمكن أن ينال حظا من الخطاب الرباني وفق استعداداته و حسب درجة قابليته و بنسبة رفع ما يقارب سبعين ألف حجاب.(ص8)

المقطع الثالث: يتشكل من الوحدات الآتية:

1- أجل إن القرآن الكريم يقول:{و لو ما في الأرض من شجر أقلام و البحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله، إن الله عزيز حكيم} لقمان27 و هكذا فإن منح القرآن أعلى مقام من بين الكلمات جميعا، تلك الكلمات التي لا تحدها حدود، مرده أن القرآن قد نزل من الاسم الأعظم و من أعظم مرتبة من مراتب كل اسم من الأسماء الحسنى، فهو كلام الله، بوصفه رب العالمين، و هو أمره بوصفه إله الموجودات، و هو خطابه بوصفه خالق السموات و الأرض، و هو مكالمة سامية بصفة الربوبية المطلقة، و هو خطابه الأزلي باسم السلطنة الإلهية العظمى. و هو سجل الالتفات و التكريم الرحماني نابع من رحمته الواسعة المحيطة بكل شيء. و هو مجموعة رسائل ربانية تبين عظمة الألوهية، إذ في بدايات بعضها رموز و شفرات. و هو الكتاب المقدس الذي ينثر الحكمة.

و لأجل هذه الأسرار أطلق على القرآن الكريم ما هو أهله و لائق به اسم(كلام الله).(ص7)

2-أما سائر الكلمات الإلهية: فإن قسما منها كلام نابع باعتبار خاص، و بعنوان جزئي، و بتجل جزئي لاسم خصوصي، وربوبية خاصة، و سلطان خاص ، و رحمة خصوصية. فدرجات هذه الكلمات مختلفة متفاوتة من حيث الخاص و الكلي، فأكثر الإلهامات من هذا القسم إلا أن درجاتها متفاوتة جدا.(ص8)

نعم إنه بمقدار علو كلام السلطان الصادر من حيث السلطنة و سموه على مكالمته الجزئية مع أحد رعاياه من العوام، و بمقدار ما يفوق الاستفادة من فيض تجلي الضوء من الشمس التي هي في السماء على استفادة فيضها من المرآة، يمكن فهم سمو القرآن الكريم على جميع الكلام الإلهي و الكتب السماوية.

فالكتب المقدسة و الصحف السماوية بالدرجة الثانية بعد القرآن الكريم في درجة العلو و السمو. كل له درجته و تفوقه، كل له حظه من ذلك السر للتفوق، فلو اجتمع جميع الكلام الطيب الجميل للإنس و الجن-الذي لم يترشح عن القرآن الكريم- فإنه لا يمكن أن يكون نظيرا قط للقرآن الكريم و لا يمكن أن يدنو إلى أن يكون مثله(ص9)

2- أجل! إن شق القمر كما أنه معجزة لإثبات الرسالة، أظهرت نبوته إلى الجن و الإنس. كذلك المعراج هو معجزة عبوديته صلى الله عليه و سلم أظهرت محبوبيته إلى الأرواح و الملائكة.

اللهم صل و سلم عليه و على آله، كما يليق برحمتك و برحمته،آمين.(ص11)

و يجب أن ننبه إلى أن استخلاص هذه المقاطع ليس قائما على بداية الواحة منها و نهايته و مرتبا ترتيبا ضمن الخطاب الذي هو الرسالة، إما في الأول أو في الوسط أو في الأخير. إنما هذا التحديد تقتضيه بنية الخطاب اللغوية ، أي ما يسمى بالتماسك الداخلي لبناء النص، لذا فهذه المقاطع تتماسك و تنجم بفعل العلاقات الداخلية لا بفعل علاقات التتابع، هذا مع الحفاظ على استقلال كل مقطع بنيويا رغم تداخله مع باقي المقاطع في السياق العام للرسالة.3

قراءة أولية:

و كما لاحظنا فإن المقطع الأول يتكون من خمس وحدات لغوية وهي وحدات سريعة نوعا ما و قصيرة إذا ما قورنت بالوحدة الثالثة، عدا الوحدة الخامسة فإنها تبدو أطول و تتخلل المقطع الثاني و الثالث. تأتي هذه الوحدات موزعة عبر الرسالة.

بينما يتكون المقطع الثاني من ثلاث وحدات رغم قلتها هي أطول من وحدات المقطع الأول.

و يتكون المقطع الثالث من ثلاث وحدات هي الأطول في الخطاب/الرسالة، مما يولد دلالات مبدئية خاصة و أن المقطع يتحدث عن سمو القرآن، تبرز دلالته في ضوء المقطعين الأول و الثاني أكثر في مستويات اللغة،و في علاقة المقاطع بعضها ببعض حيث يأتي الثاني لينير دلالات الثالث ،و يوجد الثالث كخطاب يتضمنه المقطع الأول رسالة إلى المخاطب تحمل معاني سمو القرآن الكريم.

تقوم الرسالة على صياغة يغلب فيها استعمال الأسماء على الأفعال خاصة في المقطع الثالث، الذي يختص بإظهار عظمة القرآن الكريم و سموه، فالنص يتناول موضوع السمو و التعالي بالخطاب القرآني، يعرضه الكاتب عرض نظريا، يطلق فيه خواطر هي حقائق ثابتة، لا تتقيد بزمان و لا بمكان. تتجرد منهما لتكسب صفة المطلق ، لأنها حقائق قرآنية صادرة من الحق سبحانه و تعالى، لذا تغيب العلامات الدالة على الزمان و المكان.

و كان الوصف العنصر الغالب مما أعطى الرسالة سمة تعليمية تتناسب مع خاصيتها كرسالة موجهة إلى متلقي، و خطاب من مرسل إلى مرسل إليه يؤسسه المقطع الأول الذي تتوالى فيه الأفعال الموجهة للمخاطب(أردت، تفهم، تعرف، انظر، تأمل.......) هذا التعاقب للأفعال يعطي الرسالة صفة البرهان أو الإثبات القائم ، و الاستنتاج القياسي ، فالحقيقة العامة المتجلية في عظمة الله تعالى تستلزم عظمة القرآن ما دام هو كلام الله. و هي حقيقة تحول واقعا مجسدا و حياّ في حياة الكاتب/ سعيد النورسي، و برهانا صادقا على دوره الرائد و المثالي في تجسيد هذه القيمة الخالدة و ما تتضمنه من قيم ، تعمل اللغة ومن خلفها الكاتب على نقلها بصق إلى القارئ في شاعرية و شفافية.

تحليل مقاطع الرسالة:

المقطع الأول:

إذا أعدنا ترتيب الأفعال الموظفة في الوحدات حسب عدد مرات ورودها في المقطع فإنها تكون كالآتي:

- أردت مرة واحدة

- تفهم 9 مرات

- تعرف مرة واحدة

- انظر3 مرات

- تأمل مرتين

- تشاهد مرة واحدة

- تدرك مرة واحدة

- كنت مرة واحدة

- تريد مرة واحدة

- دقق مرة واحدة

- ترى مرة واحدة

- تدبر مرة واحدة

- تستطيع مرة واحدة

و الآن نعيد ترتيبها حسب وظيفتها العقلية و المعرفية، و دلالتها في السياق:

1- أردت،كنت، تريد، تستطيع.

2- انظر، تأمل، تشاهد، دقق، ترى، تدبر.

3- تعرف، تدرك.

4- تفهم.

و قد عمدنا إلى تصنيف الأفعال على أساس اشتراكها في الوظيفة و الدلالة، ثم رتبناها حسب المراحل التي تتم بها المعرفة، و إنشائيتها في الرسالة، أي بنيتها في الخطاب، لذا يمكن أن نحكم بأن الكاتب قد تعمد ذلك من أجل تحقيق الفهم ، و بالتالي حصول اليقين.

إذا نظرنا إلى مجموعة الأفعال الأولى وجدناها تحيل إلى الإرادة، أي حصول الإرادة لدى المخاطب من أجل معرفة عظمة القرآن ، لذا كانت الأفعال (أردت، كنت، تريد، تستطيع) أي أن الخطوة الأولى في مثل هذه المعرفة لا تكون إلا بالإرادة الذاتية، و برغبة المخاطب/ المتلقي.

إن سعيد يبحث عن الإرادة الكامنة في قلب متلقيه، ليزيل عنها الغبار فتتحرك نحو النور، الذي يحدث في القارئ نوع من الفضول يدفعه لمواصلة باقي مراحل المعرفة. إنه ذكاء عظيم في مخاطبة النائمين، و عبقرية فذة في استنهاض الإرادة، اعتمادا على اللغة الموظفة، حتى و إن كانت الرسالة في غير لغتها الأصلية، لأن ما يهم هو التركيب.

و عندما ننتقل إلى المجموعة الثانية، وهي تمثل المرحلة الثانية لحصول المعرفة، و لا تتحقق إلا بتحقق المرحلة الأولى، فالأفعال(انظر، تأمل، تشاهد، دقق، ترى، تدبر) تقوم و تنبني بعد تحقق بنية الأفعال في المرحلة الأولى، و لا تعني مجرد صياغتها تحققها، إنما تحققها هو حصولها الفعلي ، إنجازها من طرف المتلقي في واقعه، هنا يمكن القول أنها اكتملت بنيويا.

و الجدير بالذكر أن فعل الأمر هو المسيطر، أربع أفعال أمر (انظر، تأمل ، دقق، تدبر) مقابل ثنين مضارعين( تشاهد، ترى ) لكنهما دلاليا يتضمنان الأمر في علاقتهما بأفعال الوحدة ضمن سياق الرسالة.

يوجه النورسي للمخاطب هذه الأفعال بعدما يوقظ فيه الرغبة و الإرادة في المعرفة، ليتأمل و يتدبر و يشاهد، وحين تصل الرسالة إلى هذه المرحلة تسرد عشر آيات، ثم بعض بدايات السور، تشترك كلها في الدلالة على عظمة قائلها الله سبحانه و تعالى، و منها يستمد القرآن عظمته، و الآيات نفسها تتضمن أفعال المرحلة الثانية يوردها النورسي في سياق الرسالة مباشرة بعد الفعل (تأمل). و هي دعوة إلى المخاطب من طرف الكاتب، و القرآن الكريم ذاته ليتدبر و يتأمل ما جاء فيها من عظمة، و يشاهد القدرة الحقيقية الخالدة.

فإذا حصل التدبر و التأمل تتحقق المعرفة، و الإدراك وهي المرحلة الثالثة التي تمثلها الأفعال( تعرف، تدرك) إذ يعرف المتلقي/ القارئ عظمة الخالق المتجلية في مخلوقاته الواردة في الآيات التي ساقتها الرسالة في المرحلة الثانية، و كذا عظمة كلام الله الذي هو القرآن.

هنا يتحقق الفهم ، الذي يحتل مساحة واسعة ، يتكرر تسع مرات تأكيدا على تحققه بعيدا عن كل شك و ريب، فلم يعد لدى القارئ أيّ تردد أو اضطراب وارد يخص الفهم، فهم بأن الله عظيم و كلامه يستمد منه عظمته، فهو- القرآن - عظيم و ما جاء فيه يستحق التطبيق، حتى يصير المطبق بدره إنسانا عظيما وسط غيره من البشر، فيستحق مرتبة عظيمة في الجنة.

و قد عمد سعيد النورسي إلى تكرار الفعل(تفهم) ليزيل اللبس و الشك عندالمتلقي، ويتأكد بأنه فعلا فهم، فلا ريبة في قلبه بعد ذلك، و هذا هو سبب اقتناع أتباعه بمجرد سماع كلماته هكذا تتحقق المعرفة الصحيحة الصادقة، و بتحققها يحصل اليقين.

المقطع الثاني:

تغيب الأفعال في المقطع الثاني إلا ناذرا، يتشكل من وحدتين تأتي الأولى مباشرة بعد المقطع الأول يتصدرها الفعل تأمل، تكونه أمثلة ثلاثة، يستحضرها سعيد النورسي من أجل تحقيق الفهم، و القياس عليها، أي قياس و تعليل المقطع الثالث بالمقطع الثاني.

و المثال في هذا المقام سواء الاسم (مثال) أو المتن يبرز حدة الشرح و الإقناع ،و التعليل، يعزز ذلك الأسلوب القائم على الاسترسال و المقارنة بين مقامين مختلفين يقابلان مقامين مختلفين في المقطع الثالث، وبالمقارنة يتضح المقصد و الفارق الدلالي الجوهري الناتج عن الاختلاف، فالخطاب منطلق من السلطان يتخذ في مساره إلى المتلقي مستويين أو طرازين كما قال سعيد النورسي، نوضح ذلك من خلال هذه الترسيمة:

مرسل مرسل إليه

القناة

تكون القناة إما مباشرة أو غير مباشرة

المثال الأول: الخطاب

- المستوى الأول: السلطان -- الرعية

خطاب غير مباشر بوساطة هاتف

الخطاب

- المستوى الثاني: السلطان ـ الوزير خطاب مباشر بلا وساطة

المثال الثاني:

و فيه يحاول شخصان الاستفادة من نور الشمس، الأول يستفيد مستخدما مرآة، و الثاني يواجه النور مباشرة.

النور

- المستوى الأول: الشمس ـ الرجل الأول

عبر المرآة

استفادة غير مباشرة

النور

- المستوى الثاني: الشمس ـ الرجل الثاني

من غير مرآة

استفادة مباشرة

نحصل على الثنائية: ( خطاب مباشر/ خطاب غير مباشر، بوساطة).

أو (اتصال مباشر/ اتصال غير مباشر، بوساطة) .

و يتم الاتصال أو الخطاب وفقا للرتبة و المكانة التي يحتلها المرسل إليه عند المرسل، فكلما تدرجت الرعية أكثر في مراتبها نحو السلطان، كلما زالت بينها و بينه الوسائط، و كان الخطاب مباشرة و ذا أثر بالغ ، و كلما اقترب الرجل أكثر من الشمس، و واجهها كلما استفاد أكثر من نورها.

هنا يأتي القياس الذي يمارسه النورسي، إذ يقيس مرتبة القرآن، و مكانته عند الله على هذين المثالين، من أجل الإفهام و تحقيق الإدراك للمتلقي، فنجد في المقطع الآتي ما يلي:

1- الله سبحانه وتعالى ـ القرآن الكريم

2- الله سبحانه و تعالى ـ الكتب و الصحف السماوية

فكون القرآن الكريم نزل من أعظم مرتبة من مراتب كل اسم من أسماء الله الحسنى، يعد كلام الله و هو أهل لذلك. و من ثم يكون له الأثر البالغ في القارئ أو السامع. عكس الكلمات الأخرى التي قالها الله تعالى لاعتبارات خاصة.

هذا ما يحققه القياس الذي أراده سعيد النورسي كما يتضح في الرسم الآتي:

قياس

المثال | الحقيقة (عظمة القرآن الكريم)

ثم يأتي التعليل الذي يؤديه المثال الثالث، لكن هذه المرة ليس تحت عنوان (المثال)، إنما بتوظيف عبارة(فمثلا)، لكي تتماسك، و تنسجم مع وظيفتها، و هي التعليل، دون أن تختلف عن المثالين السابقين من حيث البناء، وذلك في قول الوليّ: " حدثني قلبي عن ربي" و يتضمن دلاليا القول الغائب في النص " حدثني ربي عن طريق هاتف(رسول)" ، فنحصل على:

الحديث

1- الرب جل جلاله ـ الولي الحديث مباشر

من غير وساطة

الحديث

2- الرب جل جلاله ـ الولي الحديث غير مباشر

بوساطة

يقع الحديث في المستوى الأول مباشرة في القلب، و في المستوى الثاني يتم بساطة، و يكون التعليل حسب الرسم الآتي:

تعليل

الحقيقة (عظمة القرآن) | المثال

بهذه الطريقة يمارس المقطع الثاني وظيفته، القياس و التعليل، من أجل الإقناع، إقناع المتلقي بالحقيقة الكبرى، و هي عظمة القرآن المتجلية في كلماته، التي يريد سعيد النورسي من المتلقي التأمل فيها، ثم إدراكها، ثم فهمها.

المقطع الثالث:

يمثل المقطع الثالث موضوع الرسالة/ الخطاب الموجهة إلى القارئ المرسل إليه من طرف سعيد النورس المرسل. يقوم المقطع الأول بتأكيدها و البرهان عليها، يحضران كعنصرين ينيران بنيتها، ويشاركان في انبنائها دلاليا.

تعرض الرسالة عظمة القرآن باعتبار صدوره من الله عز وجل، في مقابل الكلمات الأخرى و الكتب السماوية. ثم باعتبار من نزل عليه، و هو الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.

في الوحدة الأولى تتجلى عظمة القرآن الكريم و سموه في مقابل سائر الكلمات الإلهية:

أ‌- القرآن الكريم/ ب – سائر الكلمات الإلهية

في الوحدة الثانية تظهر عظمة القرآن الكريم في مقابل الكتب السماوية:

أ - القرآن الكريم/ ب – الكتب السماوية

في الوحدة الثالثة تظهر عظمة القرآن الكريم و سموه في من نزل عليه محمد صلى الله عليه و سلم:

القرآن الكريم

الله تعالى ـ محمد صلى الله عليه و سلم

بهذه الطريقة يقدم سعيد النورسي عظمة القرآن الكريم في هذه الرسالة التي تتضمن باقي الرسائل الواردة في الكتاب ( أنوار الحقيقة) عبر لغة استطاعت أن تخترق ببنائها و أسلوبها أذن و عين القارئ، لتصل إلى قلبه و عقله، ثم نراها متجلية في سلوكه، و هو هدف الرسالة ، هدف ظهر في عنوان الكتاب( أنوار الحقيقة، مباحث في التصوف و السلوك).

تركيب:

إن الرسالة قد تكون فعالة بقوة إيمان صاحبها، و صدق كلامه، و استقامة سلوكه ، لكن قدرته على المخاطبة، و صياغتها لغويا في مثل هذا المستوى المتعالي مكنها من بلوغ مرامها. إنها حقيقة يستهدفها الإخبار و يقصدها، بحيث ينتظم الكلام و فق هذا المقصد.

في حدود ما تقدم، يقوم المقطع الأول بمهمة التنبيه، و بعث الإرادة في نفس المتلقي. بينما يقوم المقطع الثاني بمهمة التعليل و البرهنة. و يأتي المقطع الثالث ليؤدي مهمة التعريف و التعليم، وكذا التذكير بحقيقة القرآن، لذا كانت له المساحة الأكبر في الرسالة.

و ما يعطيها صفة الحقيقة المطلقة الثابتة الخالدة هو تجردها من الزمان و المكان. فهي لا تحاكي حادثا وقع في واقعنا اليومي، أو حادثا تاريخيا، فتكون خاضعة لتغيرات الزمان و تبدلاته ، تتبدل بتبدل ظروفها، إنما هي واقعة في المطلق الذي يتجاوز الزمن المادي. إنها عقيدة محكومة بزمن النص القرآني ، الذي بدوره يستمد أزليته من أزلية قائله سبحانه و تعالى.

لذلك يريد سعيد النورسي تنبيه الغافلين لعلاقة الإنسان بهذه الحقيقة سواء كان مرسلا لها أو متلق. و هنا يمتلك القائل أو الناقل لهذه الحقيقة حضورا في نص الرسالة . يغيب سعيد النورسي، فلا تدل عليه اللغة بضمائرها و أفعالها، إنما نتلمسه كقيمة روحية من خلال اللغة ذاتها، حين تلبس هذه الروح المؤمنة الممتلئة باليقين، بينما يحضر المتلقي المخاطب في المقطع الأول، و يغيب في المقطع الثاني و الثالث، حينما تركز الرسالة على الحقيقة الكبرى(عظمت القرآن الكريم).

و تتخذ بنية النص من حيث علاقتها بصاحبها طابعا حياديا، لا هوية للنص على مستوى اللغة تفصح عن كونها رسالة من خلال ما جاء أعلى غلاف الكتاب في الزاوية اليمنى(من كليات رسائل النور) ، لا تقع في زمن محدد بين مرسل و مرسل إليه معلومين، و لا في مكان ما، باستثناء اسم المؤلف (سعيد النورسي) على الغلاف ، و هذا يعطي الرسالة صفة المطلق، أي أنها تخاطب القارئ في كل مكان و زمان، و كأنها رسالة تتجدد كتابتها لترسل عبر الزمان و المكان، إنها رسالة خالدة.

نعود لنؤكد ما قلنا سلفا، و هو موقع الرسالة في بناء الكتاب ، فقد جاءت فاتحة له، وتضمنت دلاليا الرسائل الأخرى، فتفرعت عنها، لتشرح بالتفصيل، الحقائق الكبرى الواردة جملة في الرسالة الفاتحة.

و بما أنها احتوت حقيقة عظمة القرآن الكريم و سموه، بما يحويه من مواضيع الرسائل الأخرى، استحقت أن تكون فاتحة الرسائل. استطاع سعيد النورسي أن يوظف لغة تشكلت لتناسب هذه الصفة. فكانت لها القوة و القدرة على الانتقال من كونها حقيقة في مستوى اللغة إلى حقيقة في مستوى الاعتقاد، ثم تتحول إلى حقيقة مجسدة في سلوك الإنسان الذي هو المتلقي.

و نختم القول بأن الرسالة، إذا استطاعت أن تقدم و تخبر عن عظمة القرآن، فإنها و هي تفعل ذلك اكتسبت شيئا من هذه العظمة، فكانت عظيمة في مقابل الكلام البشري الآخر، دليل على عظمة قائلها العظيم في مقابل البشر الآخرين، لذا فمن أراد أن يكون عظيما فعليه أن يشرب من نبع العظمة الأصيل و هو القرآن العظيم كلام الله.

الهوامش:

1- سعيد رمضان البوطي: من الفكر و القلب فصول من النقد في العلوم و الاجتماع و الأدب، دار الهدى، عين مليلة الجزائر 1990، ص244

2- انظر مريم فرنسيس: في بناء النص و دلالته (محاور الإحالة الكلامية)، دراسات لغوية، وزارة الثقافة، دمشق،1998

3- سعيد النورسي: أنوار الحقيقة، مباحث في التصوف و السلوك ترجمة إحسان قاسم الصالحي، سوزر النشر، القاهرة، ط1/2002 ص5

4- يمنى العيد: في معرفة النص، دراسات في النقد الأدبي، دار الأفاق الجديدة بيروت ط1/1983 ص173

Site

http://www.ulum.nl/b213.htm

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق